فصل: الطرف الخامس في المكاتبات الصادرة إلى الخلفاء الفاطميين بالديار المصرية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الجملة الثانية في المكاتبات الخاصة إلى خلفاء بني العباس:

قال أبو جعفر النحاس: وقد يكاتب الإمام بغير تصدير إذا لم يكن ذلك في شيء من الأمور التي سبيلها أن تنشأ الكتب بها من الدواوين. كما كتب القاسم بن عبد الله إلى المكتفي مهنئاً له بالخلافة: بسم الله الرحمن الرحيم، والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله أن يعظم بركة هذا الأمر على أمير المؤمنين وعلى الأمة كافةً.
قال: والمستعمل في هذا الوقت في مكاتبة الوزير الإمام: أطال الله بقاء أمير المؤمنين! وأعزه وأيده، وأتم نعمته عليه، وأدام كرامته له.
ثم قال: وربما استحسنت مكاتبة المرؤوس إلى الرؤوس إلى الرئيس على غير ترتيب الكتاب. كما كتب إبراهيم بن أبي يحيى إلى بعض الخلفاء يعزيه: أما بعد، فإن أحق من عرف حق الله عليه فيما أخذ منه، من عظم حق الله عليه فيما أبقاه له، واعلم أن أجر الصابرين فيما يصأبون أعظم من النعمة عليهم فيما يعافون فيه.

.الطرف الخامس في المكاتبات الصادرة إلى الخلفاء الفاطميين بالديار المصرية:

قد ذكر في مواد البيان أن المستعمل في دولتهم أن يقال بعد البسملة: أفضل صلوات الله وبركاته، وأشرف رضوانه وتحياته، على مولانا وسيدنا الإمام الفلاني أمير المؤمنين، وعلى آبائه الطاهرين، وأبنائه الأكرمين إن كان له أبناء فإن لم يكن له أبناء قيل مكان الأكرمين: المنتظرين. ثم يقال بعد فضاء واسع: كتب عبد الموقف النبوي خلد الله ملكه، من مقر خدمته بناحية كذا، وأمور ما عذق به ورد إلى نظره منتظمةٌ بسعادة مولانا أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى جده والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين وسلم تسليماً. ثم يقال: العبد ينهي كذا وكذا ينص الأغراض التي بني الكتاب على إنهائها وشرح حالها. قال: فإن كان الكتاب مبنياً على المطالعة ببعض الأخبار، قيل في آخره بعد فضاء يسير: أنهى العبد ذلك ليستقر علمه بالموقف الأشرف إن شاء الله تعالى. وإن كان مبنياً على الاستثمار في بعض الأحوال، قيل في هذا الموضع: ولمولانا أمير المؤمنين صلى الله عليه الرأي العالي في ذلك إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة كتاب من هذا النمط في جوابٍ عن كتابٍ ورد من الخليفة بالسؤال عن المكتوب عنه في مرضه، وهو:
صلوات الله الزاكية، وتحياته الذكية الذاكية، وسلامه الذي يتنزل على الروح بالروح، ويؤذن من رضا الله بأشرف موهوبٍ وأكرم ممنوح، وبركاته التي فيها للمؤمنين سكن، وبشفاعتها تتقبل أعمال المؤمن بقبول حسن على إمام الحق المنظور المغني عن المنتظر، وحجة الله التي أرسلها نذيراً للبشر، وخليفة الله الذي نزلت بمدحه مرتلات السور، قبل مرتبات السير، وبعثه الله بالنور الذي لا يمكن الكافر من إطفائه، وبرهان الله الذي لا يطمع الجاحد في إخفائه، ونائب النبوة ووارثها، ومحيي القلوب وباعثها، ومفيض أسرار الأنوار ونافثها، سيدنا ومولانا الإمام الفلاني، ولا زالت الأقدار له جنوداً وجدوداً، والجديدان يسوقان إليه من أيامهما ولياليهما إماءً وعبيداً، وعلى آبائه الذين سبقت لهم من ربهم الحسنى، ورغبوا عن عرض هذا الأدنى، ولا تتهم ولاتهم على الخيان، ولا يتم للثقلين أن ينفذوا ما لم يكونوا منهم بسلطان وعلى أبنائه وجوه الهدى البارزة من الأكنة، وأيدي الندى والأعنة والأسنة.
كتب عبد الموقف النبوي خلد الله ملكه من مقر خدمته بالمكان الفلاني، وأمور ما عدق به ورد إلى نظره على أتم حالٍ وأكمله، وأحسن نظام وأجمله، بسعادة مولانا أمير المؤمنين، صلوات الله عليه وعلى جده وآبائه الطاهرين. العبد ينهي أنه لو أخذ في شكر المنن التي ترقيه في كل يوم لهضابٍ بعيدة المرتقى، وتورده جمات قريبة المستقى، وتوجب على لسانه أن يبذل جهد من استرسل وعلى قلبه أن يبذل جهد من اتقى، لقصر به الوصف، وأعياه من ورق الجنة الخصف. وكيف يجاري من يده ديمة الله بقلمه؟ أو كيف ينزح بحر الجود الذي يمده سبعة أبحر نعمه؟ ولما ورد عليه التشريف بالسؤال الذي أحياه بنسيم روحه، ونفخ فيه من روحه، فوقع له ساجداً، وثاب إلى السجود عائداً، وبذلك مع ضراعته الابتهال جاهداً، وأخلص فرض الولاء معتقداً ورفع لواء الحمد عاقداً، وكشف عنه الضر، وأطلعت على وجهه النعم الغر، وتكافت الأنداد في محل عيشه فحلي الحلو ومر المر، وانتهى من الدعوات إلى ما انتهى به المرض، وتفلل منه الجوهر الذي عزل به العرض، وصافح بمهجته السهام التي نفذ بها الغرض، وكاد يشاهده مرتفعاً به الضنى والألم، وفعلت أنواره في ظلمته ما لا تفعل الأنوار في الظلم، ولم يرد قبله حلو الأول والآخر، مأمون الموارد والمصادر، مضمون الشفاء في الباطن والظاهر، عادت القلوب على الأجسام بفضله، وسطت العافية على الأسقام بفضله بل بفصله، والله سبحانه يملكه أعناق البلاد، كما أجرى على يديه أرزاق العباد، إن شاء الله تعالى. وكتب في يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا.

.الطرف السادس في المكاتبات الصادرة عن الملوك ومن في معناهم إلى خلفاء بني أمية بالأندلس:

وكانت المكاتبة إليهم بالافتتاح بالدعاء بطول البقاء، مع الإطناب في الإطراء في شأن الخليفة ومدحه والثناء عليه والدعاء له، والخطاب فيه للخليفة بأمير المؤمنين منعوتاً بمولاي وسيدي ونحو ذلك، والتعبير عن المكتوب عنه بلفظ الوحدة من تاء المتكلم ونحوها. كما كتب أبو المطرف بن المثنى من إنشائه عن المنصور إلى هشام بن الحكم يخبره بجريان الصلح بينه وبين الموفق، بعد ما كان بينهما من عداوةٍ: أطال الله بقاء أمير المؤمنين! مولاي وسيدي وسيد العالمين، وابن الأئمة الراشدين، عزيزاً سلطانه منيراً زمانه، سأمية أعلامه، ماضيةً أحكامه، ظاهراً على من ناواه قاهراً لمن عاداه، كما يحب أيد الله أمير المؤمنين مولاي وسيدي على أحسن ما يكون عليه.
العبد المخلص والمولى المتخصص، الذي حسن مضمره واستوى سره وجهره، ولاح استبصاره وجده، وتناهى سعيه وجهده في مضمار الجري إلى الطاعة، وبذلك إذعانه وانقياده، واستعبد إمكانه وإجهاده، فيما يفي بتمكين الإمامة المهدية، والخلافة المرضية، ويشد مباني المملكة المصدقة لتباشير اليمن والبركة، والله سبحانه ولي العون والتأييد، والملي بالتوفيق والتسديد، لا رب غيره.
وبعد أبقى الله أمير المؤمنين فإن كتابي إليه سلف معرباً عن النزغة التي كانت بيني وبين الموفق مملوكه، وقديماً نزغ الشيطان بين المرء وصديقه، والأخ وشقيقه، وضرب ساعيا بالتشتيت والتشغيب، والتبعيد والتقريب، بين الأب الحاني الشفيق، والابن البر الرفيق، ثم يعود ذوو البصائر والنهي وأولوا الأحلام والحجا، إلى ما هو للشحناء أذهب، وبالتجامل أولى وأوجب. وكتابي هذا وقد نسخ الله بيننا آية الافتراق، بالاتصال والاتفاق، ومحاسمة التباين والخلاف، وبدو التآلف والإنصاف، وعادت النفوس إلى صفائها، وانطوت على وفائها، وخبت نار الفتنة، وامتد رواق الهدنة، وثبتت الأسباب الراسخة، والأواصر العاطفة بأزمة قلوبنا إلى معاهد الخلة القديمة، ومواطن العشرة الكريمة، والمعروف من الامتزاج في كل الأحوال والتشابك وجلاء الشك باليقين، وقرت بالانتظام العيون، وصرنا في القيام بدعوة أمير المؤمنين مولانا وسيدنا رضيعي لبان، وشريكي عنان، وأليفي تناصر، وحليفي تظافر، فنحن عن قوسٍ واحدة في نصرته نرمي، ومن ورائها نذود جاهدين ونحمي، قد فتنا الجياد في السبق إلى الطاعة، وأحرزنا قصب السبق في المظاهرة والمشايعة، فما نفتأ نسعى في تمهيدها ونذهب، ولا ننفك نكدح لها وننصب، والله الكفيل بإنجادنا بعزته وقدرته، وحوله وقوته، لا إله إلا هو.
وإن الذي عقده الله تعالى لنا، وحسمه من دواعي القطيعة عنا، ما اطرد وتأتي، وسنح وتهيا إلا بسعد طائر أمير المؤمنين سيدنا ومولانا أعزه الله، ويمن بقيبته، فمن تمسك بعروته وعاد بعصمته، فقد فاز قدحه، وتبلج في ظلم الأمور صبحه، واستدل بأوضح الدليل، وعرض بالرأي الأصيل، واستنار بأضوإ سراج، وسلك على أقصد منهاج، ولم يزايل الرشاد آراءه، وصاحب السداد أنحاءه. والله تقدس اسمه، لا يزال يعرفنا من سعادة الدعوة الزكية ما يصلح به أحوالنا، ويفسح به آمالنا، بمنه.
ولما أتاح الله من السلم ما أتاحه، وأزاح من المكروه ما أزاحه، لم أجد في فسحةً ولا غنًى ولا سعةً، من إطلاع أمير المؤمنين مولاي وسيدي من ذلك على الجلية، وإعلامه بالصورة، فأنهضت إلى حضرته العالية ذا الوزارتين عبد الرحمن بن مطروح رسولي وعبدي وخاصتي مملوكه لينهي إليه الحال على حقيقتها، ويوفيها بكليتها، وأقرن به رسول الموفق، متحملاً مثل ما تحمله رسولي، ومتقلداً كالذي تقلده، ولأمير المؤمنين مولاي وسيدي الفضل العميم في الإصغاء إليهما، والوعي عنهما، والسماع منهما جميع ما يوردانه ويوضحانه، ويستوفيانه ويشرحانه، والتطول بالمراجعة فيه، بما يستوجبه ويقتضيه، واصلاً لعز مننه وأياديه، إن شاء الله تعالى.

.الطرف السابع في المكاتبة الصادرة إلى خلفاء الموحدين بالمغرب القائم بقاياهم الآن بتونس وما معها من سائر بلاد أفريقية:

وفيه ثلاثة أساليب:
الأسلوب الأول: أن تفتتح المكاتبة بالدعاء:
وهي على ضربين:
الضرب الأول: أن تكون المكاتبة من ملكٍ آخر:
والرسم فيه أن تفتتح بالدعاء المنا سب للحال، ويعبر المكتوب عنه عن نفسه بنون الجمع ويخاطب المكتوب إليه بأمير المؤمنين. كما كتب القاضي الفاضل عن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، أحد خلفائهم في سنة خمس وثمانين وخمسمائة، يستجيشه على الروم الفرنج القاصدين بلاد الشام والديار المصرية، وهو: فتح الله بحضرة سيدنا أمير المؤمنين، وسيد العالمين، وقسيم الدنيا والدين، أبواب الميامن، وأسباب المحاسن، وأحله من كفايته في الحرم الآمن، وأنجزه من نصرة الحق ما الله له ضامن، وأصلح به كل رأي عليه الهوى رائن، ومكن له في هذه البسيطة بسطه، وزاده بالعلم غبطه، حتى يكون للأنبياء بالعلم وللأرض بالعزم وارثاً، وحتى يشيد بحادثٍ قديماً من مجده الذي لا يزال بغض الحديث حادثاً.
كان من أوائل عزمنا وفواتح رأينا عند ورودنا الديار المصرية مفاتحة دولة سيدنا، وأن نتيمن بمكاتبتها، ونتزين بمخاطبتها، وننهض إليها أماثل الأصحاب، ونستسقي معرفتها استسقاء السحاب، وننتجعها بالخواطر ونجعل الكتب رسلها، وأيدي الرسل سبلها، ونمسك طرفاً من حبل الجهاد يكون بيد حضرة سيدنا العالية طرفه، ونمسح غرة سبقٍ وارثها ووارث نورها سلفه، ونتجاذب أعداء الله من الجانبين، لا سيما بعد أن نبنا عنه نيابتين في نوبتين، فالأولى تطهير الأرضين المصرية واليمنية من ضلالةٍ أغضت عيون الأيام على قذاها، وأنامت عيون الأنام بائعةً يقظتها بكراها، ونيابةً ثانية في تطهير بيت المقدس ممن كان يعارض برجسه تقديسه، ويزعج ببناء ضلاله تأسيسه، وما كان إلا جنة إسلام فخرج منها المسلمون خروج أبيهم آدم من الجنة، وأعقبهم فيها إبليس الكفر وما أجارته مما أعقبه اللعنة، وما كانت لنا بذلك قوة بل لله القوة، ولا لنا على الخلق منة بل لله المنة.
ولما حطت لدين الكفر تيجان، وحطمت لذويه صلبان، وأخرس الناقوس الأذان، ونسخ الإنجيل القرآن، وفكت الصخرة من أسرها، وخف ما كان على قلب الحجر الأسود بخفة ما كان على ظهرها، وذلك أن يد الكفر غطتها وغمرتها، فلله الحمد أن أحرمت الصخرة بذلك البنيان المحيط، وطهرها ماطرٌ من دم الكفر وما كان ليطهرها البحر المحيط، فهنالك غلب الشرك وانقلب صاغراً، واستجاش كافرٌ من أهله كافراً، واستغضب أنفاره النافرة، واستصرخ نصرانيته المتناصرة، وتظاهروا علينا وإن الله مولانا، وطاروا إلينا زرافاتٍ ووحدانا، فلم يبق طاغيةٌ من طواغيهم، ولا أثفية من أثافيهم، إلا ألجم وأسرج، وأجلب وأرهج، وخرج وأخرج، وجاد بنفسه أو بولده، وبعدده وبعدده، وبذات صدره وبذات يده، وبكتائبه براً، وبمراكبه بحراً، وبالأقوات للخيل والرجال، والأسلحة والجنن لليمين والشمال، وبالنقدين على اختلاف صنفيهما في الجمع، وائتلاف وصفيهما في النفع، وأنهض أبطال الباطل، من فارسٍ وراجلٍ، ورامح ونابل، وحافٍ وناعل، ومواقف ومقاتل، كل خرج متطوعاً، وأهطع مسرعاً، وأتى متبرعاً، ودعا نفسه قبل أن يستدعى، وسعى إلى حتفها قبل أن يستسعى، حتى ظننا أن في البحر طريقاً يبساً، وحتى تيقنا أن ما وراء البحر قد خلا وعسا، وقلنا: كيف نترك، وقد علم أنه يدرك، وزادت هذه الحشود المتوافية، وتجافت عنها الهمم المتجافية، وكثرت إلى أن خرجت من سجن حصرها، ومستقر كفرها، وبقية ثغرها وهو صور فنازلت ثغر عكا في أسطولٍ ملك بحره، وجمع سلك بره فنهضنا إليه، ونزلنا عليهم وعليه، فضرب معنا مصاف قتلت فيه فرسانه، وجدلت شجعانه، وخذلت صلبانه، وساوى الضرب بين حاسر القوم ودارعهم، وبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم، فهنالك لاذوا بالخنادق يحفرونها، وإلى الستائر ينصبونها، وأخلدوا إلى الأرض متثاقلين، وحملوا أنفسهم على الموت متحاملين، وظاهروا بين الخنادق، وراوحوا بين المجانق، وكلما يجن القتل من عددهم مائةً أوصلها البحر ممن يصل وراءه بألف، وكلما قلوا في أعيننا في زحف، قد كثروا فيما يليه من الزحف، ولو أن دربة عساكرنا في البحر كدربتها في البر، لعجل الله منهم الانتصاف واستقل واحدنا بالعشرة ومائتنا بالألف. وقد اشتهر خروج ملوك الكفار في الجمع الجم، والعدد الدهم، كأنهم إلى نصبٍ يوفضون، وعلى نارٍ يعرضون، ووصولهم على جهة القسطنطينية يسر الله فتحها على عزم الائتمام إلى الشام في منسلخ الشتاء ومستهل الصيف، والعساكر الإسلامية لهم تستقبل، وإلى حربهم تنتقل، فلا يؤمن على ثغور المسلمين أن يتطرق العدو إليهم وإليها، ويفرغ لها ويتسلط عليها، والله من ورائهم محيط. وإذا قسمت القوة على تلقي القادم وتوقي المقيم، فربما أضر بالإسلام انقسامها، وثلمه والعياذ بالله انثلامها.
ولما مخض النظر زبده، وأعطى الرأي حقيقة ما عنده، لم نر لمكاثرة البحر إلا بحراً من أساطيله المنصورة فإن عددها وافٍ، وشطرها كافٍ، ويمكنه أدام الله تمكينه أن يمد الشام منه بعد كثيف، وحد رهيف، ويعهد إلى واليه أن يقيم إلى أن يرتبع ويصيف، ويمكنه أن يكف شطراً لأسطول طاغية صقيلة ليحص جناح قلوعه أن تطير، ويعقل عباب بحره أن يغير، ويعتقله في جزيرته، ويجري إليه قبل جريرته، فيذهب سيدنا وعقبه بشرف ذكرٍ لا ترد به المحامد على عقبها، ويقيم على الكفر قيامةً يطلع بها شمس النصر من مغربها، فإذا نفذ طريقه وعلم الناس بموفده، أوردوا وأصدورا في مورده، وشخص المسلم والكافر: هذا ينتظر بشرى البدار، وهذا يستطلع لمن تكون عقبى الدار، وخاف وطأة من يصل من رجال الماء من وصل من رجال النار. ولو بزقت عليهم بازقةٌ غربية لأغرقهم طوفانها، ولو طلعت عليهم جاريةٌ بحرية لنعقت فيهم بالشتات غربانها.
وما رأينا أهلاً لهذه العزمة إلا حضرة سيدنا أدام الله صدق محبة الخير فيه، إذا كان منحه عادة في الرضى به وقدرةً على الإجابة، ورغبةً في الإنابة، ولاية لأمر المسلمين، ورياسة للدنيا والدين، وقياماً لسلطان التوحيد القائم بالموحدين، وغضباً لله ولدينه، وبذلاً لمذخوره في الذب عنه دون ما عوده، والآن فقد خلا الإسلام بملائكته، لما خلا الكفر بشياطينه، وما أجلت السوابق إلا لإطلاقها، ولا أثلت الذخائر إلا لإنفاقها، وقد استشرف المسلمون طلوعها من جهته المحروسة جاراً من الأساطيل تغشى البحار، وليالي من المراكب تركب من البحر النهار، وإذا خفقت قلوعها خفقت للقلاع قلوب، وإذا تجافت جنوبها عن الموج تجافت من الملاعين جنوب، فهي بين ثغر كفر تعتقله وتحصره، وبين ثغر إسلام تفرج عنه وتنصره، يكون بها مصائب عند المسلمين وتظل قلائد المشركين لغربان بحره طرائد، ويمضي سيف الله الذي لا يعدم في كل زمان فيعلم معه أن سيف الله خالد، أعز الله الإسلام بما يزيد حضرة سيدنا من عزها، فيما مد عليها من ظلها، وبما يسكنه من حرزها، فيما يبسط على الأعداء بها من بأسها وينزل بهم من رجزها، وبما يجرده من سيوفها التي تقطع في الكفر قبل سلها وهزها.
وقد أوفدناه على باب حضرة سيدنا، وهو الداعي المسمع، والمبلغ المقنع، والمجمع المستجمع، علمناه أمراً يسراً، وبوأناه الصدر فكان وجهاً، وأودعناه السر فكان صدراً.
الضرب الثاني: أن تكون المكاتبة صادرةً عن بعض الأتباع:
والرسم فيه أن تفتتح المكاتبة بالدعاء بطول البقاء، مثل أن يكتب أحد أتباعه إليه، ويعبر المكتوب عنه عن نفسه بلفظ الإفراد، وعن الخليفة بأمير المؤمنين. كما يكتب أبو الميمون عن بعض أهل دولتهم إلى بعض خلفائهم جواب كتاب ورد بالكشف عن عامل ثغر شقورة: أطال الله بقاء أمير المؤمنين، وناصر الدين والدنيا بفضله العميم، ولا برحت مصالح العباد بباله الكريم جائلةً ماثلة، وسيرته الحميدة لدانيهم وقاصيهم شاملةً كافلة، ولا زال لله في أرضه بالقسط قائماً، وعلى ما ينفع الناس محافظاً دائماً.
كتبته أيد الله أمره! صدر جمادى الأولى، سنة أربع وعشرين وخمسمائة، بعد امتثال ما حده، والانتهاء إلى ما وجب الانتهاء عنده، من أمر ثغر شقورة حرسه الله! على ما أنص مناقله، وأعرض مراتبه ومنازله، وذلك أن كتابه العزيز وافاني على يد رجل من أهلها فيه فصولٌ رفعها، وأحاديث سطرها وجمعها، واندرج الكتاب المرفوع بذلك طيه، لنيظر إليه من ادعى عليهم رفعه، ويستبين حقيقته أو وضعه، وبإبطاء هذا الرافع سبقته الأنباء، واستقرت عند جمعها الأفراض والأنحاء، فاجتمعوا إلى عاملهم فلانٍ وفقه الله، وحضرهم حاكم الجهة أبقاه الله، وتتبعوا تلك الوجوه بالرد لها، والإنكار على القائم بها، وعقدوا في كل عقد منها عقداً يناقضه، واستظهروا بشهادات تنافيه وتعارضه، واندرجت العقود، ثابتةً في كتاب الحاكم على السبيل المعهود في إثبات العقود، فثبتت عندي لثبوتها عنده، وخاطبوني مع ذلك متبرين من هذا الواقع، واضعين له في عقله ودينه بأحط المواضع، وصرحوا بارتضائهم بسيرة عاملهم واغتباطهم بحمايته وسداد نظره، وعلى تئفة ذلك وصل هذا الرافع بالكتاب العزيز وما اندرج طيه على ما قدمت ذكره، فاستأنفت النظر، وأعدت العمل، وخاطبت الحاكم والأعيان والكافة هنالك بما ورد في أمرهم، وأردفت الكتاب المرفوع ليقفوا على نصه، وينظروا إلى شخصه، فراجعوني أنه لا مزيد عندهم على ما قدموه، ولا خلاف فيما نقدوه وأحكموه، وأحالوا على ما تثبت به العقود، وهي من الناس المقاطع والحدود، فاقتضى النظر إعلام أمير المؤمنين وناصر الدين أعلى الله أمره، حسب ما حده، بما وقعت عليه الحال، ليرتفع الإشكال، ولا يتعلق بهذه الحيبة البال. وقد أدرجت إلى حضرته السامية الكتب المذكورة لتعرض عليها، وتستقر الجلية منها لديها، إن شاء الله.
واندرجت العقود إلى الفقيه فلان قاضي الحضرة وفقة الله، والله يشكر لأمير المؤمنين وناصر الدين تحريه واجتهاده، وتوفيقه وسداده، ويوالي من والاه، ويكيد من عاداه. ولو كانت الحال بشقورة على ما صوره هذا الرافع لما انطوت عني أسراراها، ولاخفيت علي على البعد أخبارها، وسفوف إلى فلانة بين، وهو متشرع متدين، وعضده على ما هو بسبيله في ذلك الثغر متعين، والله ييسر الجميع إلى ما يقضي حقوق النعمة، ويقيم فروض الخدمة، بعونه وقدرته!
الأسلوب الثاني: أن تفتتح المكاتبة بألقاب الخليفة نفسه:
ثم يؤتى بالصدر معبراً عن المكتوب عنه بالعبد، ومخاطباً للخليفة بميم الجمع للتعظيم، ويختم الكتاب بالسلام، وهو على ضربين:
الضرب الأول: أن يوصف الخليفة بالمقام:
كما كتب أبو الميمون أيضاً عن بعض أهل دولتهم إلى الناصر لدين الله أحد خلفائهم: المقام الأعلى، المقدس، المكرم، الإمامي، الطاهر، الزكي، مقام الخليلة المؤيد بنصر الله، الإمام الناصر لدين الله كلأ الله جلالهم، وفيأ ظلالهم، وبوأ وفور السعود ووجود الظهور والصعود مواطئهم المقدسة وحلالهم، عبدهم المتقلب في نعمتهم، المتقرب إلى الله عز وجل بالمناصحة في خدمتهم، المتسبب إلى الزلفى عندهم بالتزام طاعتهم، والاعتصام بعصبتهم، فلان.
كتب عبد المقام الأعلى، والندي الذي أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان واحتوى على الفضائل واستولى، من موضع كذا حماه الله تعالى، وجنانه لطاعتكم قطب، ولسانه بشكر نعمتكم رطب، فبتلك رجاء الفوز، وبها ابتغاء نيل الآمال والحوز، وكيف لا يطاوعه الجنان، وشكر اللسان مستمد لإدرار الإحسان، وللمقام الأسنى عوارف، لا يتقلص ظلها الوارف، وقطراتٌ بالرحمة مسطراتٌ بمدرار سحابها الواكف، وقد كانت للعبد سهام، فاضت عليه بها من النعمة رهام، ثم جزر الماء باسرجاعها الآن، وسقي العبد بانتزاعها كأس الحزن ملآن، وردت لك بهذه الجهة انقطاع المواساة، وامتناع الألسن بالمكابدة لشظف العيش والمقاساة، وإلى المقام الأعلى الأسنة نفزع حين نفزع، ونذهب حين نرجو ونرهب، ونلجا فلا تؤخر طلباتنا ولا ترجا، وخدمة العبد هذه تنوب عنه في تقبيل ذلك المقام الأسمى. والتعرض لما عهد لديه من نفحات الرضى، والتضرع في إدرار ما جزر من تلك المنة، وغيضٍ من فيض تلك النعمى، وينهي من رغبته في بركة تلك الأدعية، التي هي للخيرات كالأوعية، ما يرجوه بشفاعة تأكد الامتنان، ومجرد عوارف الرأفة والحنان، إن شاء الله تعالى.
والرب تعالى يبقي المقام الأعلى، والنصر له مظاهر، والخير لديه متظاهر، والسعد لوليه ناصر، ولعدوه قاهر، بحول الله تعالى وقوته لارب غيره، ولا خير إلا خيره، والسلام.
الضرب الثاني: أن يعبر عن الخليفة بالحضرة:
كما كتب أبو المطرف بن عميرة عن صاحب أرغون من الأندلس إلى المستنصر بالله أحد خلفائهم، يستأذنه في وفادة صاحب أرغون في الأندلس أيضاً على أبواب الخلافة مغاضباً لأهل مملكته: الحضرة الإمامية المنصورة الأعلام، الناصرة للإسلام، المخصوصة من العدل والإحسان بما يجلو نوره متراكم الإظلام، حضرة سيدنا ومولانا الخليفة الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين، أبي يعقوب ابن سادتنا الخلفاء الراشدين، وصل الله لها إسعاد القدر، وإنجاد النصر والظفر، ولا زال مقامها الأعلى سامي النظر، مبارك الورد والصدر، ويفيض منه الجود، فيض المطر، ويحيط به السعود، إحاطة الهالة بالقمر.
نشأة أيامها الغر، وربي إنعامها المواظب على الحمد والشكر، المشرف باستخدامها الذي هو نعم العون على التقوى والبر، عبدها وابن عبدها فلان.
سلام الله الطيب المبارك وتحياته، تخص المقام الأشرف الأعلى ورحمة الله وبركاته. وبعد، فكتب العبد كتب الله للمقام الأعلى فتوحاً يعم جميع الأمصار، وسعوداً يقضي بفل السمر الطوال والبيض القصار من بلنسية، وبركاته تظهر ظهور النهار، وتفيض على البلاد والعباد فيض الأنهار، فالخلق من واردٍ في سلسالها المعين، وراجٍ للذي منها وهو من رجائه على أوضح مراتب اليقين، والله يبقي عز الإسلام ببقائه، ويعيننا على امتثال أوامره المباركة معشر عبيده وأرقائه! بمنه.
وقد تقرر له من المقام الكريم أدام الله علوه، وكبت عدوه، أمر بالسك وطال ماله في البلاد الأرغونية من زعامةٍ في شأوها برز، ولغايتها أحرز، وكان قد كفل صاحب أرغون في الزمان المتقدم كفالةً دار أمرها عليه، وألقي زمامها إليه، وتفرد منها بعبء وحمله، وخطة بلغ منها أمله، ثم إنه حط من رتبتهن وتأكدت المبالغة في نكبته، لقضيته عرضت له من أهل أرغون، فلفظته تلك الجنبات، وأزعجه أمرٌ لم يمكنه عليه الثبات، ورأى أن يلج أ أأ أ بحاله إلى المقام الباهر الأنوار، العزيز الجوار، فواصل هذا الموضع قبل مقدم العبد عليه، مقرراً ما نزل به، ومستأذناً في الوجه الذي تعرض لطلبه، فأذن له في مقصده، وانصرف عن التأهب للحركة من بلده. ثم لما وصل العبد هذه الجهة وفرغ هو من شأنه أقبل متوجهاً إلى الباب الكريم، ومتوسلاً بأمله إلى فضله العميم، والظاهر من حنقه على أهل أرغون وشده عداوته لهم، وما تأكد من القطيعة بينه وبينهم، أنه إن صادف وقت فتنة معهم ووجد ما يؤمله من إحسان الأمر العالي، أيده الله، فينتهي من نكايتهم والإضرار بهم إلى غايةٍ غريبة الآثار، مفضيةٍ به إلى درك الثار، وكثيرٌ من زعماء أرغون ورجالها أقاربه وفرسانه، وكلهم في حبله حاطب، ولإنجاده متى أمكنه خاطب، وللمقام الكريم أعلى الرأي فيه أبقاه الله شافياً للعلل، وكافياً طوارق الخطب الجلل، مأمولاً من ضروب الأمم وأصناف الملل، وهو سبحانه يديم سعادة جده، ويخصه من البقاء الذي يسر أهل الإيمان ويضاعف بهجة الزمان بأطوله وأمده، والسلام.
الأسلوب الثالث: أن تفتتح المكاتبة بأوصاف الخلافة والثناء عليها والخطاب فيه بأمير المؤمنين وعن المكتوب عنه بنون الجمع:
وهذه المكاتبة من المكاتبات البديعة المسفرة عن صبح البلاغة.
ونسختها بعد البسملة على ما كتب به ابن الخطيب عن سلطانه ابن الأحمر صاحب الأندلس إلى المستنصر بالله أبي إسحاق إبراهيم خليفة الموحدين يومئذ بالأندلس. والاستفتاح:
الخلافة التي ارتفع عن عقائد فضلها الأصيل القواعد الخلاف، واستقلت مباني فخرها الشائع وعزها الذائع على ما أسسه الأسلاف، ووجب لحقها الجازم وفرضها اللازم الاعتراف، ووسعت الآملين لها الجوانب الرحيبة والأكناف، فامتزاجنا بعلائها المنيف، وولائها الشريف، كما امتزج الماء والسلاف، وثناؤنا على مجدها الكريم، وفضلها العميم، كما تأرجت الرياض الأفواف لما زارها الغمام الوكاف ودعاؤنا بطول بقائها، واتصال علائها، يسمو به إلى قرع أبواب السموات العلا الاستشراف، وحرصنا على توفية حقوقها العظيمة، وفواضلها العميمة، لا تحصره الحدود ولا تدركه الأوصاف. وإن عذر في التقصير، عن نيل ذلك المرام الكبير، الحق والإنصاف، خلافة وجهة تعظيمنا إذا توجهت الوجوه، ومن نؤثره إذا همنا ما نرجوه، ونفديه ونبديه إذا استمنح المحبوب واستدفع المكروه، السلطان الخليفة الجليل، الكبير، الشهير، الإمام، الهمام، الأعلى، الأوحد، الأصعد، الأسعد، الأسمى، الأعدل، الأفضل، الأسنى، الأطهر، الأظهر، الأرضى، الأحفل، الأكمل، أمير المؤمنين أبي إسحاق ابن الخليفة الإمام البطل الهمام، عين الأعيان، وواحد الزمان، الكبير، الشهير، الطاهر، الظاهر، الأوحد، الأعلى، الحسيب، الأصيل، الأسمى، العادل، الحافل، الفاضل، المعظم، الموقر، الماجد، الكامل، الأرضى، المقدس، أمير المؤمنين أبي يحيى ابي بكر، ابن السلطان الكبير، الجليل، الرفيع، الماجد، الظاهر، الطاهر، المعظم، الموقر، الأسمى، المقدس، المرحوم أبي زكريا، ابن الخليفة الإمام، المجاهد الهمام الإمام ذي الشهرة الجامحة، والمفاخر الواضحة، علم الأعلام، فخر حبارى، فإذا اعلمت هذه الحسبة، قيل من هنا جاءت النسبة، طرد النمر، لما عظم أمره وأمر، فنسخ وجوده بعدمه، وابتزه الفروة ثم لطخه بدمه، وكأن مضاعف الورد نثر عليه من طبقه، أو الفلك، لما ذهب الحلك، مزج فيه بياض صبحه بحمرة شفقه وقرطاسيٍّ حقه لا يجهل، حتى ما ترقى العين فيه تشهل، إن نزع عنه جله، فهو نجمٌ كله، انفرد بمادة الألوان، قبل أن تشوبها يد الأكوان، وتمزجها أقلام الملوان، يتقدم منه الكتيبة المقبلة لواءٌ ناصع، أو أبيض مماصع، لبس وقار المشيب، في ريعان العمر القشيب، وانصتت الآذان من صهيله المطيل المطيب، لما ارتدى بالبياض إلى نغمة الخطيب، وإن تعتب منه للتأخير المتعتب، قلنا الواو لا ترتب، ما بين فحل وحره، وبهرمانة ودره، ويا لله من ابتسام غره، ووضوح يمنٍ في طره، وبهجةٍ للعين وقره، وإن ولع الناس بامتداح القديم، وخصوا الحديث بفري الأديم، وأوجب المتعصب، وإن أبى المنصب مرتبة التقديم، وطمح إلى رتبة المخدوم طرف الخديم، وقرن المثري بالعديم، وبخسٌ في سوق الحسد الكيل، ودجى الليل، وظهرٌ في فلك الإنصاف الميل، لما تذوكرت الخيل، فجيىء بالوجيه والخطار، والذائد وذي الخمار، وداحسٍ والكسب، والأبجر وزاد الركب، والجموح واليحموم، والكميت ومكتوم، والأعوج وحلوان، ولاحقٍ والغضبان، وعفور؟ والزعفران، والمحبر، واللعاب، والأغر والغراب، وشعلة والعقاب، والفياض واليعقوب والمذهب واليعسوب، والصحون والقطيب، وهيدب والصبيب وأهلوب وهداج، والحرون وخراج، وجلوى، والجناح والأحوى، ومجاج والعصا، والنعامة، والبلقاء والحمامة، وسكاب والجرادة، وحوصاء، والعرادة. فكم بين الشاهد والغائب، والفروض والرغائد، وفرق ما بين الأثر والعيان، غنيٌ عن البيان، وشتان بين الصريح والمشتبه، ولله القائل في مثلها خذ ما تراه ودع شيئاً سمعت به والناسخ يختلف به الحكم، وشر الدواب عند التفضيل بين هذه الدواب الصم البكم، إلا ما ركبه نبيٌ، أو كان له يوم الافتخار برهان خبي، ومفضلٌ ما سمع على ما رأى غبي، فلو أنصفت محاسنها التي وصفت لأقضمت حب القلوب علفا، وأوردت ماء الشنينة نطفا، واتخذت لها من عذر الخدود الملاح عذر موشية، وعللت بسفير ألحان القيان كل عشية، وأنعلت بالأهلة، وغطيت بالرياض بدل الأجلة.
إلى الرقيق، الخليق بالحسن الحقيق، تسوقه إلى مثوى الرعاية روقة الفتيان رعاته ويهدي عقيقها من سبجه أشكالاً تشهد للمخترع سبحانه بإحكام مخترعاته، وقفت ناظر الاستحسان لا يريم، لما بهره منظرها الكريم، وتخامل الضليم وتضاءل الريم، وأخرس مقوله اللسان وهو بملكات البيان الحفيظ العليم، وناب لسان الحال، عن لسان المقال، عند الاعتقال، فقال يخاطب المقام الذي أطلعت أزهارها غمام وجوده واقتضت اختيارها بركة وجوده: لو علمنا أيها الملك الأصيل، الذي كرم منه الإجمال والتفصيل، أن الثناء يوازيها لكلنا لك بكيلك، أو الشكر يعادلها ويجازيها لتعرضنا بالوشل إلى نيل نيلك، أو قلنا: هي التي أشار إليها مستصرخ سلفك المستنصر بقوله: أدرك بخيلك، حين شرق بدفعه الشرق، وانهزم الجمع واستولى الفرق واتسع فيه والحكم لله الخرق، ورأى أن مقام التوحيد بالمظاهرة على التثليث، وحزبه الخبيث، هي الأولى والأحق. والآن قد أغنى الله بتلك النية، عن إنجاد الطوال الردينية، وبالدعاء بتلك المثابة الدينية إلى رب البنية، عن الأمداد السنية، والأجواد تخوض بحر الماء إلى بحر المنية، وعن الجرد العربية في مقاود الليوث الأبية، وجدد برسم هذه الهدية، مراسيم العهود الودية، والذمم الموحدية، لتكون علامةً على الأصل، ومكذبه لدعوه الوقف والفصل وإشعاراً بالألفة التي لا تزال ألفها ألف الوصل، ولامها حرام على النصل.
وحضر بين يدينا رسولكم فلان فقرر من فضلكم، ما لا ينكره من عرف علو مقداركم، وأصالة داركم، وفلك أبداركم، وقطب مداركم، وأجبناه عنه بجهدٍ ما كنا لنقنع من حناه المهتصر، بالقضيب المختصر، ولا نقابل طول طوله بالقصر، لولا طروء الحصر.
وقد كان بين الأسلاف رحمة الله عليهم ورضوانه ودٌ أبرمت من أجل الله معاقدة، وورثت للخلوص، الجلي النصوص، مضاجعه القاره ومراقده، وتعاهدٌ بالجميل توجع لفقده فاقده، أبى الله إلا أن يكون لكم الفضل في تجديده، والعطف بتوكيده، فنحن الآن لا ندري أي مكارمكم نذكر، أو أي فواضلكم نشرح أو نشكر، أمفاتحتكم التي هي عندنا في الحقيقة فتح، أم هديتكم وفي وصفها للأقلام سبح، ولعدو الإسلام بحكمة حكمتها كبح، إنما نكل الشكر لمن يوفي جزاء الأعمال البرة، ولا يبخس مثقال الذرة ولا أدنى من مثقال الذرة، ذي الرحمة الثرة، والألطاف المتصلة المستمرة، لا إله إلا هو.
وإن تشوفتم إلى الأحوال الراهنة، وأسباب الكفر الواهية بقدرة الله الواهنة، فنحن نطرفكم بطرفها، ونطلعكم على سبيل الإجمال بطرفها، وهو أننا لما أعاد الله من التمحيص، إلى مثابة التخصيص، من بعد المرام العويص، كحلنا بتوفيق الله بصر البصيرة، ووقفنا على سبيله مساعي الحياة القصيرة، ورأينا كما نقل إلينا، وكرر على من قبلنا وعلينا، أن الدنيا وإن غر الغرور، وأنام على سرر الغفلة السرور، فلم ينفع الخطور على أجداث الأحباب والمرور جسر يعبر، ومتاعٌ لا يغبط من حبي به ولا يحبر، إنما هو خبر يخبر، وأن الحسرة بمقدارها على تركه تجبر، وأن الأعمار أحلام، وأن الناس نيام، وربما رحل الراحل عن الخان، وقد جلله بالأذى والدخان، أو ترك به طيباً، وثناءً يقوم بعده للآتي خطيباً، فجعلنا العدل في الأمور ملاكاً، والتفقد للثغور، مسواكاً، وضجيع المهاد، حديث الجهاد، وأحكامه مناط الاجتهاد، وقوله: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارةٍ} من حجج الاستشهاد، وبادرنا من الحصون المضاعة وجنح التقية دامسٍ، وساكنها بائس، والأعصم في شعفاتها من العصمة يائس، فزينا ببيض الشرفات ثناياها، وأفعمنا بالعذب الفرات ركاياها، وغشينا بالصفيح المضاعف أبوابها، واحتسبنا عند موفي الأجور ثوابها، وبيضنا بناصع الكلس أثوابها، فهي اليوم توهم حس العيان، أنها قطعٌ من بيض العنان، تكاد تنأول قرص البدر بالبنان، متكلفةٌ للمؤمن من فزع الدنيا والآخرة بالأمان، وأقرضنا الله قرضا، وأوسعنا مدونة الجيش عرضا، وفرضنا إنصافه مع الأهلة فرضا، واستندنا من التوكل على الله الغني الحميد إلى ظل لواء، وبنذنا إلى الطاغية عهده على سواء، وقلنا: ربنا أنت العزيز وكل جبار لعزك ذليل، وحزبك هو الكثير وما سواه فقليل أنت الكافي، ووعدك الوعد الوافي، فأفض علينا مدارع الصابرين واكتبنا من الفائزين بحظوظ رضاك الظافرين، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
فتحركنا أولى الحركات، وفاتحة مصحف البركات، في خفٍّ من الحشود، واقتصارٍ على ما بحضرتنا من العساكر المظفرة والجنود، إلى حصن آش البازي المطل، وركاب العدو الضال المضل، ومهدي نفثات الصل، على امتناعه وارتفاعه، وسمو يفاعه، وما بذل العدو فيه من استعداده، وتوفير أسلحته وأزواده، وانتخاب أنجاده، فصلينا بنفسنا ناره، وزاحمنا عليه الشهداء نصابر أواره، ونلقى بالجوارح العزيزة سهامه المسمومة، وجلامده الملمومة، وأحجاره، حتى فرعنا بحول من لا حول ولا قوة إلا به أبراجه المنيعة وأسواره، وكففنا عن العباد والبلاد أضراره، بعد أن استضفن إليه حصن السهلة جاره، ورحلنا عنه بعد أن شحناه رابطةً وحأمية، وأزواداً نأمية، وعملنا بيدنا في رم ما ثلم القتال، وبقر من بطون مسالحه الرجال، واقتدينا بنبينا صلوات الله عليه وسلامه في الخندق لما حمى ذلك المجال، ووقع الارتجاز المنقول خبره والارتجال، وما كان ليقر للإسلام مع تركه القرار، وقد كتب الجوار، وتداعى الدعرة وتعاوى الشرار.
وكنا أغزينا الجهة الغريبة من المسلمين بمدينة برغة التي سدت بين القاعدتين: مالقة ورندة الطريق، وألبست ذل الفراق ذلك الفريق، ومنعتهما أن يسيغا الريق، فلا سبيل إلى الإلمام، لطيف المنام في الأحلام، ولا رسالة إلا في أجنحة هدي الحمام، فيسر الله فتحها، وعجل منحها، بعد حرب انبتت فيها النحور، وتزينت الحور، وتبع هذه الأم بناتٌ شهيرة، وبقع للزرع والضرع خيرة، فشفي الثغر من بوسه، وتهلل وجه الإسلام بتلك الناحية بعد عبوسه.
ثم أعملنا الحركة إلى مدينة الجزيرة على بعد المدى، وتعلقها على بلاد العدا، واقتحام هول الفلا وغول الردا، مدينةٌ بنتها حمص فأوسعت الدار، وأغلت الشوار، وراعت الاستكثار، وبسطت الاعتمار، رجح إلينا قصدها على البعد، والطريق الجعد، ما آسفت به المسلمين، من استئصال طائفةٍ من أسراهم مروا بها آمنين، وبطائرها المشؤوم متيمنين، قد أنهكهم الاعتقال، والقيود الثقال، وأضرعهم الإسار، وجللهم الانكسار، فجدلوهم في مصرعٍ واحد، وتركوهم عبرةً للرائي والمشاهد، وأهدوا بوقيعتهم إلى الإسلام ثكلً الواحد، وترة الماجد، فكبسناها كبساً، وفجأناها بإلهام من لا يضل ولا ينسى، فصبحتها الخيل، ثم تلاحق الرجل كما جن الليل، وحاق بها الويل، فأبيح منها الذمار، وأخذها الدمار، ومحقت من مصانعها البيض الأهلة وخسفت الأقمار، وشفيت من دماء أهلها الضلوع الحرار، وسلطت على هياكلها النار، واستولى على الآلاف العديدة من سبيها الإسار، وانتهى إلى إشبيلية الثكلى المغار، فجلل وجوه من بها من كبار النصرانية الصغار، واستولت الأيدي على ما لا يسعه الوصف ولا تقله الأوقار.
وعدنا والأرض تموج سبياً، لم نترك بعفرين شبلاً ولا بوجرة ظبياً، والعقائل حسرى، والعيون تبهرها الصنع الأسرى، وصبح السرى قد حمد بعد بعد المسرى، فسبحان الذي أسرى. ولسان الحمية ينادي، في تلك الكنائس المخربة والنوادي، يا لثارات الأسرى.
ولم يكن إلا أن نفلت الأنفال، ووسمت بالأرضاخ الأغفال، وتميزت الهوادي والأكفال، وكان إلى غزو مدينة جيان الاحتفال، قدنا إليها الجرد تلاعب الظلال نشاطاً، والأبطال تقتحم الأخطار رضاً بما عند الله واغتباطاً، والمهندة الزرق تسبق إلى الرقاب استلالاً واختراطاً، والردينية السمر تسترط حياة النفوس استراطاً، وأزحنا العلل عمن أراد جهاداً منجياً غباره من دخان جهنم ورباطاً، ونادياً الجهاد الجهاد، يا أمة الجهاد، راية النبي الهاد، الجنة الجنة تحت ظلال السيوف الحداد، فهز النداء إلى الله تعالى كل عامر وغامر، وأتمر الجم من دعوة الحق إلى أمر آمر، وأتى الناس من الفجوج العميقة رجالاً وعلى كل ضامر، وكاثرت الرايات أزهار البطاح لوناً وعدا، وسدت الحشود مسالك الطريق العريضة سدا، ومد بحرها الزاخر مدا، فلا يجد لها الناظر ولا المناظر حدا.
وهذه المدينة هي الأم الولود، والجنة التي في النار لسكانها من الكفار الخلود، وكرسي الملك ومجنبته الوسطى من الممالك باءت بالمزايا العديدة ونجحت، وعند الوزان بغيرها من أمات البلدان رجحت، غاب الأسود، وجحر الحيات السود، ومنصب التماثيل الهائلة، ومعلق النواقيس الصائلة.
وأدنينا إليها المراحل، وعينا لتجار المحلات المستقلات منها الساحل، ولما أكثبنا جوارها، وكدنا نلمح نارها، تحركنا ووشاح الأفق المرقوم، بزهر النجوم، قد دار دائره، والليل من خوف الصباح، على سرحه المستباح قد شابت غدائره، النسر يرفرف باليمن طائره، والسماك الرامح يثأر ثغر الإسلام ثائره، والنعائم راعدة فرائس الجسد، من خوف الأسد، والقوس يرسل سهم السعادة، بوتر العادة، إلى أهداف النعم المعادة، والجوزاء عابرةٌ نهر المجرة، والزهرة تغار من الشعرى العبور بالضرة، وعطارد يسدي في حيل الحروب على البلد المحروب ويلحم، ويناضل على أشكالها الهندسية فيفحم، والأحمر يبهر، والعلم الأبيض يفري وينهر، والمشتري يبديء في فضل الجهاد ويعيد، ويزاحم في الخلفات على ما للسعادة من الصفات ويزيد، وزحل على الطالع منزحل، وعن العاشر مرتحل، وفي زلق السقوط وحل، والبدر يطارح حجر المنجنيق، كيف يهوي إلى النيق، ومطلع الشمس يرقب، وجدار الأفق يكاد بالعيون عنها ينقب.
ولما فشا سر الصباح، واهتزت أعطاف الرايات لتحيات مبشرات الرياح، أطللنا عليها أطلال الأسود على الفرائس، والفحول على العرائس، فنظرنا منظراً يروع بأساً ومنعه، ويروق وضعاً وصنعه، تلفعت معالقه الشما للسحاب ببرود، ووردت من غدير المزن في برود، وأسرعت لاختطاف أزهار النجوم، والذراع بين النطاق معاصم رود، وبلداً يعيي الماسح والذارع، وينتظم المحاني والأجارع، فقلنا: اللهم نفله إيدي عبادك، وأرينا فيه آيةً من آيات جهادك، فنزلنا بساحتها العريضة المتون، نزل الغيث الهتون، وتيمنا من فحصها الأفيح بسورة التين والزيتون، متربة من أمان الرحمان للبلد المفتون، وأعجلنا الناس بحمية نفوسهم النفيسة، وسجية شجاعتهم البئيسه، عن أن نبويء للقتال المقاعد، وندني بإسماع شهير النفير منهم الأباعد، وقبل أن يلتقي الخديم بالمخدوم، ويركع المنجنيق ركعتي القدوم، فدفعوا من أصحر إليهم من الفرسان، وسبق أن حومة الميدان، حتى أجحروهم في البلد، وسلبوهم لباس الجلد، في موقفٍ يذهل الوالد عن الولد، صارت السهام فيه غماما، وطارت كأسراب الحمام تهدي حماما، وأضحت القنا قصدا، بعد أن كانت شهاباً رصدا، وماج بحر القتام بأمواج النصول، وأخذ الأرض الرجفان لزلزال الصياح الموصول، فلا ترى إلا شهيداً تظلل مصرعه الحور، وصريعاً تقذف به إلى الساحل أمواج تلك البحور، ونواشب تبأى بها الوجوه الوجيهة عند الله والنحور، فالمقضب فوده يخضب، والأسمر غصنه يستثمر، والمغفر حماه يخفر، وظهور القسي تقصم، وعصم الجند الكوافر تفصم، وورق اليلب في المنقلب يسقط، والبتر تكتب والسمر تنقط، فاقتحم الربض الأعظم لحينه، وأظهر الله لعيون المبصرين والمتبصرين عزة دينه، وتبرأ الشيطان من خدينه، ونهب الكفار وخذلوا، وبكل مرصدٍ جدلوا، ثم دخل البلد بعده غلابا، وجلل قتلاً واستلابا. فلا تسل، إلا الظبى والأسل، عن قيام ساعته، وهول يومها وشناعته، وتخريب المبائت والمباني، وغنى الأيدي من خزائن تلك المغاني، ونقل الوجود الأول إلى الوجود الثاني، وتخارق السيف فجاء بغير المعتاد، ونهلت القنا الردينية من الدماء حتى كادت تورق كالأغصان المغترسة والأوتاد، وهمت أفلاك القسي وسحت، وأرنت حتى بحت، ونفدت موادها فشحت بما ألحت، وسدت المسالك جثث القتلى فمنعت العابر، واستأصل الله من عدوه الشأفة وقطع الدابر، وأزلف الشهيد وأحسب الصابر، وسبقت رسل الفتح الذي لم يسمع بمثله في الزمن الغابر، تنقل البشرى من أفواه المحابر، إلى الآذان المنابر.
أقمنا بها أياماً نعقر الأشجار، ونستأصل بالتخريب الوجار، ولسان الانتقام، من عبدة الأصنام، ينادي يالثارات الإسكندرية تشفياً من الفجار، ورعياً لحق الجار، وقفلنا وأجنحة الرايات، برياح العنايات خافقه، وأوفاق التوفيق الناشئة من خطوط الطريق موافقه، وأسواقٌ العز بالله نافقه، وحملاء الرفق مصاحبة والحمد لله مرافقه، وقد ضاقت ذروع الجبال، عن أعناق الصهب السبال، ورفعت على الأكفال، ردفاء كرائم الأنفال، وقلقلت من النواقيس أجرام الجبال بالهندام والاحتيال، وهلك بمهلك هذه الأم بناتٌ كن يرتضعن ثديها الحوافل ويستوثرن حجرها الكافل، شمل التخريب أسوارها، وعجلت النار بوارها.
ثم تحركنا بعدها حركة الفتح، وأرسلنا دلاء الإدلال قبل المنح، فبشرت بالمنح، وقصدنا مدينة أبدة وهي ثانية الجناحين، وكبرى الأختين، ومساهمة جيان في حين الحين، مدينة أخذت عرض الفضاء الأخرق، وتمشت فيه أرباضها تمشي الكتابة الجامحة في المهرق المشتملة على المتاجر والمكاسب، والوضع المتناسب، والفلج المعيي ريعه عمل الحاسب، وكوارة الدبر اللاسب، المتعددة اليعاسب، فأناخ العفاء بربوعها العامرة، ودارت كؤوس عقار الحتوف، ببنان السيوف، على متديريها المعاقرة، ودخلت مدينتها عنوة السيف، في أسرع من خطرة الطيف، ولا تسأل عن الكيف، فلم يبلغ العفاء من مدينةٍ حافلة، وعقيلةٍ في حلل المحاسن رافلة، ما بلغ من هذه البائسة التي سجدت لآلهة النيران أبراجها، وتضاءل بالرغام معراجها، وضفت على أعطافها ملابس الخذلان، وأقفر من كنائسها كناس الغزلان.
ثم تأهبنا لغزو أم القرى الكافرة، وخزائن المزاين الوافرة، وربة الشهرة السافرة، والأنباء المسافرة قرطبة وما أدرك ماهيه، ذات الأرجاء الحالية الكاسية، والأطواد الراسخة الراسية، والمباني المباهية والزهراء الزاهية، والمحاسن غير المتناهيه، حيث هالة بدر السماء، قد استدارت من السور المشيد البناء، ونهر المجرة من نهرها الفياض، المسلول حسامه من غمود الغياض، قد لصق بها جارا، وفلك الدولاب المعتدل الانقلاب قد استقام مدارا، ورجع الحنين اشتياقاً إلى الحبيب الأول وادكارا، حيث الطود كالتاج، يزدان بلجين العذب المجاج، فيزري بتاج كسرى ودارا، حيث قسي الجسور المديره، كأنها عوج المطي الغريره، تعبر النهر قطارا، حيث آثار العامري المجاهد، تعبق بين تلك المعاهد، شذًى معطارا، حيث كرائم السحائب، تزور عرائس الرياض الحبائب، فتحمل لها من الدر نثارا، حيث شمول الشمال تدار على الأدواح، بالغدر والرواح، فترى الغصون سكارى وما هي بسكارى، حيث أيدي الافتتاح تفتض من شقائق البطاح، أبكارا، حيث ثغور الأقاح الباسم، تقبلها بالسحر زوار النواسم، فتخفق قلوب النجوم الغيارى، حيث المصلى العتيق قد رحب مجالاً وطال منارا، وأزرق ببلاط الوليد احتقارا، حيث الظهور المثارة بسلاح الفلاح تجب عن مثل أسنمة المهارا، والبطون كأنها لتدميث الغمائم بطون العذارى، والأدواح العالية تخترق أعلامها الهادية بالجدأول الخبارا، فما شئت من جوٍّ صقيل، ومعرس للحسن ومقيل، ومالكٍ للعقل وعقيل، وخمائل كم فيها للبلابل من قال وقيل، وخفيف يجاوب بثقيل، وسنابل تحكي من فوق سوقها، وقضب بسوقها، الهمزات فوق الألفات، والعصافير البديعة الصفات، فوق القضب المؤتلفات، تميل بهبوب الصبا وجنوب مائلة الجيوب بدرر الحبوب، وبطاحٍ لا تعرف عين المحل، فتطلبه بالذحل، ولا تصرف في خدمة بيض قباب الأزهار، عند افتتاح السوسن والبهار، غير العبدان من سودان النخل، وبحر الفلاحة الذي لا يدرك ساحله، ولا يبلغ الطية البعيدة راحله، إلى الوادي، وسمر النوادي، وقرار الدموع الغوادي، المتجاسر على تخطيه، عند تمطيه، الجسر العادي، والوطن الذي ليس من عمرو ولا يزيد، والفرا الذي في جوفه كل صيد، أقل كرسيه خلافة الإسلام، وأعار بالرصافة والجسر دار السلام، وما عسى أن تطنب في وصفه ألسنة الأقلام، أو تعبر به عن ذلك الكمال فنون الكلام.
فاعملنا إليها السرى والسير، وقدنا إليها الخيل وقد عقد الله بنواصيها الخير.
ولما وقفنا بظاهرها المبهت المعجب، واصطففنا بخارجها المنبت المنجب، والقلوب تلتمس الإعانة من منعمٍ مجزل، وتستنزل مدد الملائكة من منجدٍ منزل، والركائب واقفة من خلفنا بمعزل، تتناشد في معاهد الإسلام:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل برز من حاميتها المحأمية، ووقود النار الحأمية، وبقية السيف الوافرة على الحصاد النأمية، قطع الغمائم الهأمية، وأمواج البحور الطأمية، واستجنت بظلال أبطال المجال أعداد الرجال الناشبة والرأمية، وتصدى للنزال، من صناديدها الصهب السبال، أمثال الهضاب الراسيه، تجنهاجنن السوابغ الكاسيه، وقواميسها المفادية للصلبان يوم بوسها بنفوسها المواسيه، وخنازيرها التي عدتها عن قبول حجج الله ورسوله ستور الظلم الغاشيه، وصخور القلوب القاسيه، فكان بين الفريقين أمام جسرها الذي فرق البحر، وحلي بلجينه ولآليء زينه منها النحر، حربٌ لم تنسج الأزمان على منوالها، ولا أتت الأيام الحبالى بمثل أجنة أهوالها، من قاسها بالفجار أفك وفجر، أو مثلها بجفر الهباءة خرف وهجر، ومن شبهها بحرب داحسٍ والغبراء فما عرف الخبر، فليسأل من جرب وخبر، ومن نظرها بيوم شعب جبله، فهو ذو بله، أو عادلها ببطن عاقل، فغير عاقل، أو احتج بيوم ذل قار، فهو إلى المعرفة ذو افتقار أو ناضل بيوم الكديد، فسهمه غير السديد، إنما كان مقاماً غير معتاد، ومرعى نفوسٍ لم يف بوصفه لسان مرتاد، وزلزال جبال أوتاد، ومتلف مذخور لسلطان الشيطان وعتاد، أعلم فيه البطل الباسل، وتورد الأبيض الباتر وتأود الأسمر العاسل، ودوم الجلمد المتكاسل، وانبعث من حدب الحنية إلى هدف الرمية الناشر الناسل، ورويت لمرسلات السهام المراسل. ثم أفضى أمر الرماح إلى التشاجر والارتباك، ونشبت الاسنة في الدروع نشب السمك في الشباك، ثم اختلط المرعى بالهمل، وعزل الرديني عن العمل، وعادت السيوف من فوق المفارق تيجانا، بعد أن شقت غدر السوابغ خلجانا، واتخذت جدأول الدروع فصارت بحرا، وكان التعانق فلا ترى إلا نحراً يلازم نحرا، عناق وداع، وموقف شمل ذي انصداع، وإجابة منادٍ إلى فراق الأبد وداع، واستكشفت مآل الصبر الانفس الشفافة، وهبت بريح النصر الطلائع المبشرة الهفافة، ثم أمد السيل ذلك العباب، وصقل الاستبصار الألباب، واستخلص العزم صفوة اللباب، وقال لسان النصر ادخلوا عليهم الباب، فأصبحت طوائف الكفار، حصائد مناجل الشفار، فمفارقهم قد رضيت حرماتها بالاعقار، ورؤوسهم محطوطة في غير معالم الاستغفار، وعلت الرايات من فوق تلك الأبراج المستطرفة والأسوار، ورفرف على المدينة جناح البوار، لولا الانتهاء إلى الحد والمقدار، والوقوف عند اختفاء سر المقدار.
ثم عبرنا نهرها، وشددنا بأيدي الله قهرها، وضيقنا حصرها، وأقمنا بها أياماً تحوم عقبان البنود على فريستها حياما، وترمي الأرواح ببوارها، وتسلط النيران على أقطارها، فلولا عائق المطر، لحصلنا من فتح ذلك الوطن على الوطر، فرأينا أن نروضها بالاجتثاث والانتساف، ونوالي على زروعها وربوعها كرات رياح الاعتساف، حتى يتهيأ للإسلام لوك طعمتها، ويتهنأ بفضل الله إرث نعمتها، ثم كانت عن موقفها الإفاضة من بعد نحر النحور، وقذف حمار الدمار على العدو المدحور، وتدافعت خلفنا السابقات المستقلات تدافع أمواج البحور.
وبعد أن ألححنا على جناتها المصحرة، وكرومها المشتجرة، إلحاح الغريم، وعوضناها المنظر الكريه من المنظر الكريم، وطاف عليها طائفٌ من ربنا فأصبحت كالصريم، وأغرينا حلاق النار بحمم الجحيم، وراكمنا في أجواف أجوائها غمائم الدخان، تذكر طيبة البان، بيوم الغميم، وأرسلنا رياح الغارات لا تذر من شيءٍ أتت عليه إلا جعلته كالرميم واستقبلنا الوادي يهول مدا، ويروع سيفه الصقيل حدا، فيسره الله من بعد الإعواز، وانطلقت على الفرضة بتلك العرضة أيدي الانتهاز، وسألنا من ساءله أسد بن الفرات فأفتى برجحان الجواز فعم الاكتساح والاستباح جميع الأحواز، فأديل المصون، وانتهبت القرى وهدمت الحصون، واجتثت الأصول وحطمت الغصون، ولم نرفع عنها إلى اليوم غارةً تصافحها بالبوس، وتطلع عليها غررها الضاحكة باليوم العبوس. فهي الآن مجرى السوابق ومجر العوالي، على التوالي، والحسرات تتجدد في أطلالها البوالي، وكأن بها قد صرعت، وإلى الدعوة المحمدية قد أسرعت بقدرة من لو أنزل القرآن على الجبال لخشعت من خشية الله وتصدعت، وعزة من أذعنت الجبابرة لعزه وخنعت، وعدنا والبنود لا يعرف اللف نشرها، والوجوه المجاهدة لا يخالط التقطيب بشرها، والأيدي بالعروة الوثقى معتلقه، والألسن بشكر نعم الله منطلقه، والسيوف في مضاجع الغمود قلقه، وسرابيل الدروع خلقه، والجياد من ردها إلى المرابط والأواري رد العواري حنقه، وبعبرات الغيظ المكظوم مختنقه، تنظر إلينا نظر العاتب، وتعود من ميادين المراح والاختيال تحت حلل السلاح عود الصبيان إلى المكاتب، والطبل بلسان العز هادر، والعزم إلى منادي العود الحميد مبادر، ووجود نوع الرماح، من بعد ذلك الكفاح، نادر، والقاسم ترتب بين يديه من السبي النوادر، ووارد منهل الأجور، غير المحلإ ولا المهجور صادر، ومناظر الفضل الآتي عقبه أخيه الثاني على المطلوب المواتي مصادر، والله على تيسير الصعاب وتخويل المنن الرغاب قادر، لا إله إلا هو، فما أجمل لنا صنعه الخفي! وأكرم بنا لطفه الحفي! اللهم لا نحصي ثناءً عليك، ولا نلجأ منك إلا إليك، ولا نلتمس خير الدنيا والآخر إلا لديك، فأعد علينا عوائد نصرك يا مبديء يا معيد، وأعنا من وسائل شكرك على ما ننال به المزيد، يا حي يا قيوم يا فعالاً لما يريد.
وقارنت رسالتكم الميمونة منه لدينا حدق فتح بعيدٍ صيته، مشرئب ليته، وفخر من فوق النجوم العوائم مبيته، عجبنا من تأتي أمله الشارد، وقلنا البركة في قدوم الوارد، وهو أن ملك النصارى لاطفنا بجملة من الحصون كانت من مملكة الإسلام قد غصبت، والتماثيل فيها ببيوت الله قد نصبت، أدالها الله بمحاولتنا الطيب من الخبيث، والتوحيد من التثليث، وعاد إليها الإسلام عودة الأب الغائب، إلى النبات الحبائب، يسأل عن شؤونها، ويمسح دموع الرقة عن جفونها، وهي للروم خطة خسفٍ قلما ارتكبوها فيما نعلم من العهود، ونادرةٌ من نوادر الوجود، وإلى الله علينا وعليكم عوارف الجود! وجعلنا في محاريب الشكر من الركع السجود! عرفناكم بمجملات أمورٍ تحتها تفسير، ويمنٌ من الله وتيسير، إذ استيفاء الجزئيات عسير، لنسركم بما منح الله دينكم، ونتوج بعز الملة الحنيفية جبينكم، ونخطب بعده دعاءكم وتأمينكم، فإن دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب سلاح ماض، وكفيلٌ بالمواهب المسؤولة من المنعم الوهاب ميفاض، وأنتم أولى ما ساهم في بر، وعامل الله بخلوص سر، وأين يذهب الفضل عن بيتكم، وهو صفة حيكم وتراث ميتكم، ولكم مزية القدم، ورسوخ القدم، والخلافة مقرها إيوانكم، وأصحاب الإمام مالكٍ رضي الله عنه مستقرها قيروانكم، وهجير المنابر ذكر إمامكم، والتوحيد أعلام أعلامكم، والوقائع الشهيرة في الكفر منسوبةٌ إلى أيامكم، والصحابة الكرام فتحة أوطانكم، وسلالة الفاروق عليه السلام وشائج سلطانكم، ونحن نستكثر من بركة خطابكم، ووصلة جنابكم، ولولا الأعذار لوالينا بالمتزيدات تعريف أبوابكم.
والله عز وجل يتولى عنا من شكركم المحتوم، ما قصر المكتوب منه عن المكتوم، ويبقيكم لإقامة الرسوم، ويحل محبتكم من القلوب محل الأرواح من الجسوم، وهو سبحانه يصل سعدكم، ويحرس مجدكم، ويوالي نعمه عندكم.
والسلام الكريم، الطيب البر العميم، يخصكم كثيراً أثيراً، ما أطلع الصبح وجهاً منيراً، بعد أن أرسل النسيم سفيراً، وكان الوميض الباسم، لأكواس الغمائم على أزهار الكمائم مديراً، ورحمة الله وبركاته، إن شاء الله تعالى.